الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ} فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب، ومثله قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ...} الآية [آل عمران: 118]، وقوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقوله: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله} الآية، [المجادلة: 22] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} [المائدة: 51]، وقوله: {ا ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1] وقوله: {مِن دُونِ المؤمنين} في محل الحال، أي: متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً، أو اشتراكاً، والإشارة بقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إلى الاتخاد المدلول عليه بقوله: {لاَّ يَتَّخِذِ} ومعنى قوله: {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَئ} أي: من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال. قوله: {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} على صيغة الخطاب بطريق الالتفات، أي: إلا أن تخافوا منهم أمراً يجب اتقاؤه، وهو: استثناء مفرغ من أعم الأحوال. وتقاة مصدر واقع موقع المفعول، وأصلها وقية على وزن فعلة قلبت الواو تاء، والياء ألفاً، وقرأ رجاء، وقتادة «تقية». وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً. وخالف في ذلك قوم من السلف، فقالوا: لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام. قوله: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أي: ذاته المقدسة، وإطلاق ذلك عليه سبحانه جائز في المشاكلة، كقوله: {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وفي غيرها. وذهب بعض المتأخرين، إلى منع ذلك إلا مشاكلة. وقال الزجاج: معناه: ويحذركم الله إياه، ثم استغنوا عن ذلك بهذا، وصار المستعمل. قال: وأما قوله: {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} فمعناه: تعلم ما عندي، وما في حقيقتي، ولا أعلم ما عندك، ولا ما في حقيقتك. وقال بعض أهل العلم: معناه: ويحذركم الله عقابه مثل {واسئل القرية} [يوسف: 82] فجعلت النفس في موضع الإضمار، وفي هذه الآية تهديد شديد، وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه. قوله: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ...} الآية: فيه أن كل ما يضمره العبد، ويخفيه، أو يظهره، ويبديه، فهو معلوم لله سبحانه، لا يخفى عليه منه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة: {وَيَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} مما هو أعم من الأمور التي يخفونها، أو يبدونها، فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك. قوله: {يَوْمَ تَجِدُ} منصوب بقوله: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} وقيل: بمحذوف، أي: اذكر، و{مُّحْضَرًا} حال، وقوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء} معطوف على «ما» الأولى: أي: وتجد ما عملت من سوء محضراً تود لو أن بينها، وبينه أمداً بعيداً. فحذف محضراً لدلالة الأول عليه، وهذا إذا كان {تجد} من وجدان الضالة، وأما إذا كان من وجد بمعنى علم كان محضراً، هو المفعول الثاني، ويجوز أن يكون قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا} جملة مستأنفة، ويكون «ما» في: {ما عملت} مبتدأ، ويودّ: خبره. والأمد: الغاية، وجمعه آماد: أي: تودّ لو أن بينها، وبين ما عملت من السوء أمداً بعيداً، وقيل: إن قوله: {يَوْمَ تَجِدُ} منصوب بقوله: {تَوَدُّ} والضمير في قوله: {وَبَيْنَهُ} لليوم، وفيه بُعْد، وكرر قوله: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} للتأكيد، وللاستحضار؛ ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم، وفي قوله: {والله رَءوفٌ بالعباد} دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه بعباده لطفاً بهم. وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له: إنك تموت، وتبعث، وترجع إلى، الله فقال: أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه. وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة ابن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعد بن خيثمة، لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر، فأنزل الله فيهم: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين} إلى قوله: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طرق عنه قال: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، ويتخذوهم، وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله تعالى: {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة}. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَئ} فقد بريء الله منه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} قال: التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به، وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عنه في الآية قال: التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان، ولا يبسط يده، فيقتل، ولا إلى إثم، فإنه لا عذر له. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في الآية قال: التقية باللسان، وليس بالعمل. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} قال إلا أن يكون بينك، وبينه قرابة، فتصله لذلك. وأخرج عبد بن حميد، والبخاري، عن الحسن قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة. وحكى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا نبش في وجوه أقوام، وقلوبنا تلعنهم، ويدل على جواز التقية، قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. ومن القائلين بجواز التقية باللسان أبو الشعثاء، والضحاك، والربيع بن أنس. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: {قُلْ إِن تُخْفُواْ} الآية قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسروا، وما أعلنوا. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله {محضراً}، يقول: موفراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في الآية قال: يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً، يكون ذلك مناه. وأما في الدنيا، فقد كانت خطيئته يستلذها. وأخرجا أيضاً، عن السدي: {أَمَدَا بَعِيدًا} قال: مكاناً بعيداً. وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج {أمداً} قال: أجلاً. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَءوفُ بالعباد} قال: من رأفته بهم حذرهم نفسه.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)} الحب والمحبة: ميل النفس إلى الشيء، يقال: أحبه، فهو محبّ، وحبه يحبه بالكسر، فهو محبوب. قال الجوهري: وهذا شاذ؛ لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر. قال ابن الدهان: في حبّ لغتان حبّ وأحبّ، وأصل حبّ في هذا الباب حبب كطرق، وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته. قال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما، واتباعه أمرهما، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران. وقرأ أبو رجاء العطاردي: «فاتبعوني» بفتح الباء. وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من يغفر في اللام. قال النحاس: لا يجيز الخليل، وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرو أجلّ من أن يغلط في هذا، ولعله كان يخفي الحركة، كما يفعل في أشياء كثيرة. قوله: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} حذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: في جميع الأوامر، والنواهي. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يحتمل أن يكون من تمام مقول القول، فيكون مضارعاً حذفت فيه إحدى التاءين، أي: تتولوا، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، فيكون ماضياً. وقوله: {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} نفي المحبة كناية عن البغض، والسخط. ووجه الإظهار في قوله: {فَإِنَّ الله} مع كون المقام مقام إضمار؛ لقصد التعظيم، أو التعميم. قوله: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ} الخ لما فرغ سبحانه من بيان أن الدين المرضي هو: الإسلام، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الرسول الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه، وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو لمجرد البغي عليه، والحسد له- شرع في تقرير رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أنه من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة. والاصطفاء: الاختيار. قال الزجاج: اختارهم بالنبوة على عالمي زمانهم، وقيل: إن الكلام على تقدير مضاف، أي: اصطفى دين آدم الخ، وقد تقدم الكلام على تفسير العالمين، وتخصيص آدم بالذكر؛ لأنه أبو البشر، وكذلك نوح، فإنه آدم الثاني، وأما آل إبراهيم، فلكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم مع كثرة الأنبياء منهم. وأما آل عمران فهم وإن كانوا من آل إبراهيم، فلما كان عيسى عليه السلام منهم كان لتخصيصهم بالذكر وجه. وقيل المراد: بآل إبراهيم: إبراهيم نفسه، وبآل عمران: عمران نفسه. قوله: {ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} نصب ذرية على البدلية مما قبله قاله الزجاج، أو على الحالية قاله الأخفش. وقد تقدم تفسير الذرية، و{بعضها من بعض} في محل نصب على صفة الذرية، ومعناه: متناسلة متشعبة، أو متناصرة متعاضدة في الدين. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن من طرق؛ قال: قال أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا محمد إنا لنحبّ ربنا، فأنزل الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} الآية. وأخرج الحكيم الترمذي عن يحيى بن كثير نحوه. وأخرج أيضاً ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج، نحوه. وأخرج ابن جرير، عن محمد بن جعفر بن الزبير في قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} أي: إن كان هذا من قولكم في عيسى حباً لله، وتعظيماً له: {فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي: ما مضى من كفركم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء في قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله} قال: على البرّ، والتقوى، والتواضع، وذلة النفس. وأخرجه أيضاً الحكيم الترمذي، وأبو نعيم، والديلمي، وابن عساكر عنه. أخرج ابن عساكر، مثله عن عائشة. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم، عن عائشة؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن يحبّ على شيء من الجور، ويبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحبّ، والبغض في الله» قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} الآية. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وآل إبراهيم وآل عمران} قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} قال: في النية، والعمل، والإخلاص، والتوحيد.
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} قوله: {إِذْ قَالَتِ} قال أبو عمرو: «إذ» زائدة. وقال محمد بن يزيد: إنه متعلق بمحذوف تقديره اذكر إذ قالت. وقال الزجاج: هو متعلق بقوله: {اصطفى} وقيل: متعلق بقوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وامرأة عمران اسمها- حنة بالحاء المهملة، والنون- بنت فاقود بن قبيل أم مريم، فهي جدة عيسى. وعمران هو ابن ماثان جد عيسى، قوله: {رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} تقديم الجار، والمجرور، لكمال العناية، وهذا النذر كان جائزاً في شريعتهم. ومعنى: {لَكَ} أي: لعبادتك {ومحرراً} منصوب على الحال، أي: عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة. والمراد هنا: الحرية التي هي ضد العبودية. وقيل: المراد بالمحرر هنا الخالص لله سبحانه الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا. ورجح هذا بأنه لا خلاف أن عمران، وامرأته حران. قوله: {فَتَقَبَّلْ مِنّي} التقبل: أخذ الشيء على وجه الرضا، أي: تقبل مني نذري بما في بطني. قوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها أنثى، أو لكونه أنثى في علم الله، أو بتأويل ما في بطنها بالنفس، أو النسمة، أو نحو ذلك. قوله: {قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى} إنما قالت هذه المقالة؛ لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكر دون الأنثى، فكأنها تحسرت، وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه، وتقدره، و{أنثى} حال مؤكدة من الضمير، أو بدل منه. قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرأ أبو بكر، وابن عامر بضم التاء، فيكون من جملة كلامها، ويكون متصلاً بما قبله، وفيه معنى التسليم لله، والخضوع، والتنزيه له أن يخفى عليه شيء. وقرأ الجمهور {وضعت}، فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم لما وضعته، والتفخيم لشأنه، والتجليل لها حيث وقع منها التحسر، والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله، وابنها آية للعالمين، وعبرة للمعتبرين، ويختصها بما لم يختص به أحداً. وقرأ ابن عباس: «بما وضعت» بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها، أي: إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب، وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتتضافر عندها العقول. قوله: {وَلَيْسَ الذكر كالانثى} أي: وليس الذكر الذي طلبت، كالأنثى التي وضعت، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكراً أن يكون نذراً خادماً للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم، وشأنها فخيم. وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع، ورفع شأنه، وعلوّ منزلته، واللام في الذكر، والأنثى للعهد، هذا على قراءة الجمهور، وعلى قراءة ابن عباس، وأما على قراءة أبي بكر، وابن عامر، فيكون قوله: {وَلَيْسَ الذكر كالانثى} من جملة كلامها، ومن تمام تحسرها، وتحزنها، أي: ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادماً، ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك، وكأنها أعذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت. قوله: {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} عطف على {إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى} ومقصودها من هذا الإخبار بالتسمية التقرّب إلى الله سبحانه، وأن يكون فعلها مطابقاً لمعنى اسمها، فإن معنى مريم: خادم الربّ بلغتهم، فهي، وإن لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة، فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات. قوله: {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} عطف على قوله: {إِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}، والرجيم المطرود، وأصله المرمى بالحجارة، طلبت الإعاذة لها، ولولدها من الشيطان، وأعوانه. قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي: رضي بها في النذر، وسلك بها مسلك السعداء. وقال قوم: معنى التقبل التكفل، والتربية، والقيام بشأنها، والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق، والباء زائدة، والأصل تقبلاً، وكذلك قوله: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} وأصله إنباتاً، فحذف الحرف الزائد، وقيل: هو مصدر لفعل محذوف، أي: فنبتت نباتاً حسناً. والمعنى أنه سوّى خلقها من غير زيادة، ولا نقصان، قيل: إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام، وقيل: هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي: ضمها إليه. وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها. وقرأ الكوفيون: {وَكَفَّلَهَا} بالتشديد، أي: جعله الله كافلاً لها، وملتزماً بمصالحها، وفي معناه ما في مصحف أبيّ، " وأكفلها "، وقرأ الباقون بالتخفيف على إسناد الفعل إلى زكريا، ومعناه ما تقدّم من كونه ضمها إليه، وضمن القيام بها. وروى عمرو بن موسى، عن عبد الله بن كثير، وأبي عبد الله المزني، " وكفلها " بكسر الفاء. قال الأخفش: لم أسمع كفل. وقرأ مجاهد: «فتقبلها» بإسكان اللام على المسألة، والطلب، ونصب " ربَّها " على أنه منادى مضاف. وقرأ أيضاً: «وأنبتها» بإسكان التاء «وكفلها» بتشديد الفاء المكسورة، وإسكان اللام، ونصب «زكريا» مع المدّ. وقرأ حفص، وحمزة، والكسائي: «زكريا» بغير مد، ومده الباقون، وقال الفراء: أهل الحجاز يمدون {زكريا}، ويقصرونه. قال الأخفش: فيه لغات المد، والقصر، و" زكريّ " بتشديد الياء، وهو ممتنع على جميع التقادير للعجمة، والتعريف مع ألف التأنيث. قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب} قدّم الظرف للاهتمام به، وكلمة كل ظرف، والزمان محذوف، و" ما " مصدرية، أو نكرة موصوفة، والعامل في ذلك قوله: {وَجَدَ} أي: كل زمان دخوله عليها، وجد عندها رزقاً، أي: نوعاً من أنواع الرزق. والمحراب في اللغة: أكرم موضع في المجلس قاله القرطبي، وهو: منصوب على التوسع، قيل: إن زكريا جعل لها محراباً: لا يرتقي إليه إلا بسلم، وكان يطلق عليها حتى كبرت، وكان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فقال: {يامريم أنى لَكِ هذا} أي: من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} فليس ذلك بعجيب، ولا مستنكر، وجملة قوله: {إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} تعليلية لما قبلها، وهو من تمام كلامها، ومن قال إنه من كلام زكريا، فتكون الجملة مستأنفة. وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} قال: كانت نذرت أن تجعله في الكنيسة يتعبد فيها، وكانت ترجو أن يكون ذكراً. وأخرج ابن المنذر عنه قال: نذرت أن تجعله محرراً للعبادة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {مُحَرَّرًا} قال: خادماً للبيعة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال: محرراً خالصاً لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهلّ صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم، وابنها،» ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} وللحديث ألفاظ عن أبي هريرة هذا أحدها، وروى من حديث غيره. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: كفلها زكريا، فدخل عليها المحراب، فوجد عندها عنباً في مكتل في غير حينه، فقال: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، قال: إن الذي يرزقك العنب في غير حينه لقادر أن يرزقني من العاقر الكبير العقيم ولداً {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38]. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: كانت مريم ابنة سيدهم، وإمامهم، فتشاحّ عليها أحبارهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها، وكان زكريا زوج أختها، فكفلها، وكانت عنده، وحضنها. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصحابة، نحوه. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} قال: جعلها معه في محرابه.
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} قوله: {هُنَالِكَ} ظرف يستعمل للزمان والمكان، وأصله للمكان، وقيل: إنه للزمان خاصة، وهناك للمكان، وقيل: يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، واللام للدلالة على البعد، والكاف للخطاب. والمعنى: أنه دعا في ذلك المكان الذي هو قائم فيه عند مريم، أو في ذلك الزمان أن يهب الله له ذرية طيبة، والذي بعثه على ذلك ما رآه من ولادة حنة لمريم، وقد كانت عاقراً، فحصل له رجاء الولد، وإن كان كبيراً، وامرأته عاقراً، أو بعثه على ذلك ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف، والصيف في الشتاء عند مريم؛ لأن من أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من العاقر، وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من الارتباط. والذرية: النسل، يكون للواحد، ويكون للجمع، ويدل على أنها هنا للواحد. قوله: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5] ولم يقل أولياء، وتأنيث طِّيبة لكون لفظ الذرية مؤنثاً. قوله: {فَنَادَتْهُ الملئكة} قرأ حمزة، والكسائي: «فناداه»، وبذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود. وقرأ الباقون: «فنادته الملائكة»، قيل: المراد هنا جبريل، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية، ومنه: " الذين قَالَ لَهُمُ الناس " [آل عمران: 173]؛ وقيل: ناداه جميع الملائكة، وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدّم، فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة. قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حالية، و{يُصَلّى فِى المحراب} صفة لقوله: {قَائِمٌ} أو خبر ثان لقوله: {وَهُوَ}. قوله: {إِنَّ الله يُبَشّرُكِ} قريء بفتح أنّ، والتقدير بأن الله، وقريء بكسرها على تقدير القول. وقرأ أهل المدينة " يبشرك " بالتشديد. وقرأ حمزة بالتخفيف. وقرأ حميد بن قيس المكي بكسر الشين، وضم حرف المضارعة. قال الأخفش: هي ثلاث لغات بمعنى واحد، والقراءة الأولى هي التي وردت كثيراً في القرآن، ومنه {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17] {فَبَشّرْهُم بِمَغْفِرَةٍ} [ياس: 11] {فبشرناها بإسحاق} [هود: 71] {قَالُواْ بشرناك بالحق} [الحجر: 55] وهي: قراءة الجمهور. والثانية: لغة أهل تهامة، وبها قرأ أيضاً عبد الله بن مسعود، والثالثة من أبشر يبشر إبشاراً. ويحيى ممتنع إما لكونه أعجمياً أو لكون فيه وزن الفعل، كيعمر مع العلمية. قال القرطبي حاكياً عن النقاش: كان اسمه في الكتاب الأول حنا. انتهى. والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه يوحنا. قيل: سمي بذلك؛ لأن الله أحياه بالإيمان، والنبوّة. وقيل: لأن الله أحيا به الناس بالهدى. والمراد هنا: التبشير بولادته، أي: يبشرك بولادة يحيى. وقوله: {مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} أي: بعيسى عليه السلام، وسمي كلمة الله؛ لأنه كان بقوله سبحانه " كن "، وقيل: سمي كلمة الله؛ لأن الناس يهتدون به، كما يهتدون بكلام الله. وقال أبو عبيد: معنى: {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} بكتاب من الله، قال: والعرب تقول أنشدني كلمته، أي: قصيدته، كما روي أن الحويدرة ذكر لحسان، فقال: لعن الله كلمته، يعني قصيدته. انتهى. ويحيى أوّل من آمن بعيسى، وصدّق، وكان أكبر من عيسى بثلاث سنين، وقيل: بستة أشهر. والسيد: الذي يسود قومه. قال الزجاج: السيد: الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير. والحصور: أصله من الحصر، وهو الحبس، يقال حصرني الشيء، وأحصرني: إذا حبسني، ومنه قول الشاعر: وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أنْ تكون تَبَاعَدتْ *** عَلَيْكَ وَلا أن أحْصَرتك شُغولُ والحصور: الذي لا يأتي النساء، كأنه يحجم عنهن، كما يقال رجل حصور، وحصير: إذا حبس رفده، ولم يخرجه، فيحيى عليه السلام كان حصوراً عن إتيان النساء، أي: محصوراً لا يأتيهنّ، كغيره من الرجال، إما لعدم القدرة على ذلك، أو لكونه يكف عنهنّ منعاً لنفسه عن الشهوة مع القدرة. وقد رجّح الثاني بأن المقام مقام مدح، وهو لا يكون إلا على أمر مكتسب يقدر فاعله على خلافه، لا على ما كان من أصل الخلقة، وفي نفس الجبلة. وقوله: {مّنَ الصالحين} أي: ناشئاً من الصالحين، لكونه من نسل الأنبياء، أو كائناً من جملة الصالحين، كما في قوله: {وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين} [البقرة: 130]. قال الزجاج: الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه، وإلى الناس حقوقهم، قوله: {قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام} ظاهر هذا أن الخطاب منه لله سبحانه، وإن كان الخطاب الواصل إليه هو بواسطة الملائكة، وذلك لمزيد التضرّع، والجدّ في طلب الجواب، عن سؤاله، وقيل: إنه أراد بالربّ جبريل، أي: يا سيدي، قيل: وفي معنى هذا الاستفهام، وجهان: أحدهما أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر، أو من غيرها؟ وقيل: معناه بأيّ سبب استوجب هذا، وأنا، وامرأتي على هذه الحال؟ والحاصل أنه استبعد حدوث الولد منهما مع كون العادة قاضية بأنه لا يحدث من مثلهما؛ لأنه كان يوم التبشير كبيراً، قيل: في تسعين سنة، وقيل: ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته في ثمان وتسعين سنة، ولذلك قال: {وََقَدْ بَلَغَنِي الكبر} أي: والحال ذلك، جعل الكبر، كالطالب له لكونه طليعة من طلائع الموت، فأسند الفعل إليه. والعاقر: التي لا تلد، أي: ذات عقر على النسب، ولو كان على الفعل لقال عقيرة، أي: بها عقر يمنعها من الولد، وإنما وقع منه هذا الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طِّيبة، ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في مريم استعظاماً لقدرة الله سبحانه لا لمحض الاستبعاد، وقيل: إنه قد مرّ بعد دعائه إلى وقت يشاء ربه أربعون سنة، وقيل: عشرون سنة، فكان الاستبعاد من هذه الحيثية. قوله: {كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} أي: يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو: إيجاد الولد من الشيخ الكبير، والمرأة العاقر، والكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف، والإشارة إلى مصدر يفعل، أو الكاف في محل رفع على أنها خبر، أي: على هذا الشأن العجيب شأن الله، ويكون قوله: {يَفْعَلُ مَا يَشَاء} بياناً له، أو الكاف في محل نصب على الحال، أي: يفعل الله الفعل كائناً مثل ذلك. قوله: {قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} أي: علامة أعرف بها صحة الحبل، فأتلقى هذه النعمة بالشكر {قال آيتك ألا تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} أي: علامتك أن تحبس لسانك عن تكليم الناس ثلاثة أيام لا عن غيره من الأذكار، ووجه جعل الآية هذا؛ لتخلص تلك الأيام لذكر الله سبحانه شكراً على ما أنعم به عليه، وقيل: بأن ذلك عقوبة من الله سبحانه له بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه، حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين. والرمز في اللغة: الإيماء بالشفتين، أو العينين، أو الحاجبين، أو اليدين، وأصله الحركة، وهو: استثناء منقطع، لكون الرمز من غير جنس الكلام، وقيل: هو متصل على معنى أن الكلام ما حصل به الافهام من لفظ، أو إشارة، أو كتابة، وهو بعيد. والصواب الأوّل، وبه قال الأخفش، والكسائي. قوله: {وَسَبّحْ} أي: سبحه {بالعشى} وهو: جمع عشية، وقيل: هو واحد، وهو: من حين تزول الشمس إلى أن تغيب. وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل، وهو ضعيف جداً {والإبكار} من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. وقيل: المراد بالتسبيح: الصلاة. قوله: {إِذْ قَالَتِ الملئكة يامريم} الظرف متعلق بمحذوف، كالظرف الأول {إِنَّ الله اصطفاك} اختارك {وَطَهَّرَكِ} من الكفر، أو من الأدناس على عمومها {واصطفاك على نِسَاء العالمين} قيل: هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأوّل، فالأوّل هو: حيث تقبلها بقبول حسن، والآخر لولادة عيسى. والمراد بالعالمين هنا قيل: نساء عالم زمانها، وهو الحق، وقيل: نساء جميع العالم إلى يوم القيامة، واختاره الزجاج، وقيل: الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول، والمراد بهما جميعاً: واحد. قوله: {يامريم اقنتى لِرَبّكِ} أي: أطيلي القيام في الصلاة، أو أديميه؛ وقد تقدّم الكلام على معاني القنوت، وقدّم السجود على الركوع، لكونه أفضل، أو لكون صلاتهم لا ترتيب فيها مع كون الواو لمجرد الجمع بلا ترتيب. وقوله: {واركعى مَعَ الركعين} ظاهره أن ركوعها يكون مع ركوعهم، فيدل على مشروعية صلاة الجماعة. وقيل: المعنى: أنها تفعل مثل فعلهم، وإن لم تصلّ معهم. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما سبق من الأمور التي أخبره الله بها. والوحي في اللغة: الإعلام في خفاء، يقال وحي، وأوحى بمعنى. قال ابن فارس: الوحي الإشارة، والكتابة، والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى تعلمه. قوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: تحضرنهم يعني المتنازعين في تربية مريم، وإنما نفي حضوره عندهم مع كونه معلوماً؛ لأنهم أنكروا الوحي، فلو كان ذلك الإنكار صحيحاً لم يبق طريق للعلم به إلا المشاهدة، والحضور، وهم لا يدّعون ذلك، فثبت كونه، وحياً مع تسليمهم أنه ليس ممن يقرأ التوراة، ولا ممن يلابس أهلها. والأقلام جمع قلم، من قلمه: إذا قطعه، أي: أقلامهم التي يكتبون بها، وقيل: قداحهم {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي: يحضنها، أي: يلقون أقلامهم؛ ليعلموا أيهم يكفلها، وذلك عند اختصامهم في كفالتها، فقال زكريا: هو: أحق بها لكون خالتها عنده، وهي أشيع أُخت حنة أمّ مريم. وقال بنو إسرائيل: نحن أحق بها لكونها بنت عالمنا، فاقترعوا، وجعلوا أقلامهم في الماء الجاري على أن من وقف قلمه، ولم يجر مع الماء، فهو صاحبها، فجرت أقلامهم، ووقف قلم زكريا، وقد استدل بهذا من أثبت القرعة، والخلاف في ذلك معروف، وقد ثبتت أحاديث صحيحة في اعتبارها. وقد أخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: لما رأى زكريا ذلك، يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، عند مريم قال: إن الذي أتى بهذا مريم في غير زمانه قادر أن يرزقني ولداً، فذلك حين دعا ربه. وأخرج ابن عساكر، عن الحسن نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي: {ذُرّيَّةً طَيّبَةً} يقول: مباركة. وأخرج ابن جرير، عن عبد الرحمن بن أبي حماد قال: في قراءة ابن مسعود: «فناداه جبريل، وهو قائم يصلي في المحراب»، وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي أنه قال: {فَنَادَتْهُ الملئكة} أي: جبريل. وأخرج ابن المنذر، عن السدي قال: المحراب المصلى. وقد أخرج الطبراني، والبيهقي، عن ابن عمرو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا هذه المذابح» يعني: المحاريب. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، عن موسى الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى» وقد رويت كراهة ذلك عن جماعة من الصحابة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة؛ قال: إنما سمي يحيى؛ لأن الله أحياه بالإيمان. وأخرجوا، عن ابن عباس قال: {مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} قال: عيسى بن مريم هو: الكلمة. وأخرج ابن جرير، من طريق ابن جريج، عنه قال: كان يحيى، وعيسى ابني الخالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، فذلك تصديقه بعيسى سجوده في بطن أمه، وهو: أوّل من صدق بعيسى. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَسَيّدًا} قال: حليماً تقياً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال: السيد الكريم على الله. وأخرج ابن جرير، عن ابن المسيب قال: السيد الفقيه العالم. وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَسَيّدًا وَحَصُورًا} قال: السيد الحليم، والحصور الذي لا يأتي النساء. وأخرج أحمد في الزهد، عن سعيد بن جبير في الحصور مثله. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الحصور الذي لا ينزل الماء. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان ذكره مثل هدبة الثوب» وأخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، من وجه آخر، عن ابن عمرو موقوفاً، وهو أقوى. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن شعيب الجبائي قال: اسم أم يحيى أشيع. وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج في قوله: {اجعل لِّى ءايَةً} قال: بالحمل به. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {آيتك ألاّ تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ} قال: إنما عوقب بذلك، لأن الملائكة شافهته بذلك مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه، فأخذ عليه بلسانه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ رَمْزًا} قال: الرمز بالشفتين. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: الرمز الإشارة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَسَبّحْ بالعشى والإبكار} قال: العشيّ ميل الشمس إلى أن تغيب، والإبكار أوّل الفجر. وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» وأخرج الحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل نساء العالمين خديجة، وفاطمة، ومريم، وآسية امرأة فرعون» وأخرج ابن مردويه، عن أنس مرفوعاً نحوه. وأخرج نحوه، أحمد، والترمذي وصححه، وابن المنذر، وابن حبان، والحاكم، من حديثه مرفوعاً، وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على الطعام» وفي المعنى أحاديث كثيرة، وكلها تفيد أن مريم عليها السلام سيدة نساء عالمها، لا نساء جميع العالم. ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر، عن مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أربع نسوة سادات نساء عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأفضلهن عالماً فاطمة» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {يامريم اقنتى لِرَبّكِ} قال: أطيلي الركوع يعني: القيام. وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير {اقنتى لِرَبّكِ} قال: أخلصي. وأخرج عن قتادة قال: أطيعي ربك. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم} قال: إن مريم لما وضعت في المسجد اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها. قال الله لمحمد: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} الآية. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: ألقوا أقلامهم في الماء، فذهبت مع الجرية، وصعد قلم زكريا، فكفلها زكريا. وأخرج ابن جرير، عن الربيع نحوه. وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد، وكذلك أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن جريج، أن الأقلام هي التي يكتبون بها التوراة. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن عطاء: أنها القداح.
{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} قوله: {إِذْ قَالَتِ} بدل من قوله: «وإذ قالت» المذكور قبله، وما بينهما اعتراض، وقيل: بدل من «إذ يختصمون» وقيل: منصوب بفعل مقدر. وقيل: بقوله: {يَخْتَصِمُونَ} وقيل: بقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ}. والمسيح اختلف فيه مماذا أخذ؟ فقيل: من المسح؛ لأنه مسح الأرض، أي: ذهب فيها، فلم يستكن بكن، وقيل: إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء، فسمي مسيحاً، فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل، وقيل: لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به، وقيل: لأنه كان ممسوح الأخمصين، وقيل: لأن الجمال مسحه، وقيل: لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، وهو على هذه الأربعة الأقوال: فعيل بمعنى مفعول. وقال أبو الهيتم: المسيح ضد المسيخ بالخاء المعجمة. وقال ابن الأعرابي: المسيح الصديق. وقال أبو عبيد: أصله بالعبرانية مشيخاً بالمعجمتين فعرّب، كما عرّب موشى بموسى. وأما الدجال، فسمي مسيحاً؛ لأنه ممسوح إحدى العينين، وقيل: لأنه يمسح الأرض أي: يطوف بلدانها إلا مكة، والمدينة وبيت المقدس. وقوله: {عِيسَى} عطف بيان، أو بدل، وهو اسم أعجمي، وقيل: هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه. قال في الكشاف: هو معرّب من أيشوع. انتهى. والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة، وإنما قيل: ابن مريم مع كون الخطاب معها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب، فنسب إلى أمه. والوجيه ذو الوجاهة: وهي: القوّة والمنعة، ووجاهته في الدنيا النبوّة، وفي الآخرة الشفاعة، وعلوّ الدرجة، وهو: منتصب على الحال من كلمة، وإن كانت نكرة، فهي موصوفة، وكذلك قوله: {وَمِنَ المقربين} في محل نصب على الحال. قال الأخفش: هو: معطوف على {وجيها}. والمهد: مضجع الصبيّ في رضاعه، ومهدت الأمر: هيأته، ووطأته. والكهل هو: من كان بين سن الشباب، والشيخوخة، أي: يكلم الناس حال كونه رضيعاً في المهد، وحال كونه كهلاً بالوحي، والرسالة، قاله الزجاج. وقال الأخفش، والفراء: إن كهلاً معطوف على وجيهاً. قال الأخفش: {وَمِنَ الصالحين} عطف على وجيهاً، أي: هو من العباد الصالحين. قوله: {أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ} أي: كيف يكون على طريقة الاستبعاد العادي {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} جملة حالية، أي: والحال أنه على حالة منافية للحالة المعتادة من كون له أب {قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء} هو: من كلام الله سبحانه. وأصل القضاء الأحكام، وقد تقدّم، وهو هنا الإرادة، أي: إذا أراد أمراً من الأمور {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} من غير عمل ولا مزاولة، وهو تمثيل لكمال قدرته. قوله: {وَيُعَلّمُهُ الكتاب} قيل هو معطوف على {يُبَشّرُكِ}: أي: إن الله يبشرك وإنّ الله يعلمه، وقيل: على {يَخْلُقُ}: أي: وكذلك يعلمه الله، أو كلام مبتدأ سيق تطييباً لقلبها. والكتاب الكتابة. والحكمة العلم، وقيل: تهذيب الأخلاق، وانتصاب رسولاً على تقدير، ويجعله رسولاً، أو ويكلمهم رسولاً، أو وأرسلت رسولاً، وقيل: هو معطوف على قوله: {وَجِيهاً} فيكون حالاً؛ لأن فيه معنى النطق، أي: وناطقاً، قال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله: {ورسولاً} مقحمة، والرسول حالاً. وقوله {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} معمول لرسول؛ لأن فيه معنى النطق كما مر، وقيل: أصله بأني قد جئتكم، فحذف الجار، وقيل: منصوب بمضمر أي: تقول أني قد جئتكم، وقيل: معطوف على الأحوال السابقة. وقوله: {بِئَايَةٍ} في محل نصب على الحال، أي: متلبساً بعلامة كائنة {مّن رَّبّكُمْ}. وقوله: {أَنِى أَخْلُقُ} أي: أصوّر، وأقدّر {لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} وهذه الجملة بدل من الجملة الأولى، وهي: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} أو بدل من آية، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هي: أني، وقريء بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، «كهيئة الطير» بالتشديد، والكاف في قوله: {كَهَيْئَةِ الطير} نعت مصدر محذوف، أي: أخلق لكم خلقاً، أو شيئاً مثل هيئة الطير. وقوله: {فَأَنفُخُ فِيهِ} أي: في ذلك الخلق، أو ذلك الشيء، فالضمير راجع إلى الكاف في قوله: كهيئة الطير، وقيل: الضمير راجع إلى الطير، أي: الواحد منه، وقيل: إلى الطين، وقريء: «فيكون طائراً، وطيراً،» مثل تاجر وتجر، وقيل: إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة، فإن له ثدياً، وأسناناً، وأذناً، ويحيض، ويطهر، وقيل: إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة، ولكونه يطير بغير ريش، ويلد، كما يلد سائر الحيوانات مع كونه من الطير، ولا يبيض، كما يبيض سائر الطيور، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة، وهو: يضحك، كما يضحك الإنسان؛ وقيل: إن سؤالهم له كان على وجه التعنت، قيل: كان يطير ما دام الناس ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الله من فعل غيره، وقوله: {بِإِذُنِ الله} فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عزّ وجلّ لم يقدر على ذلك، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام. قيل: كانت تسوية الطين، والنفخ من عيسى، والخلق من الله عزّ وجلّ. قوله: {وَأُبْرِئ الأكمه} الأكمه: الذي يولد أعمى، كذا قال أبو عبيدة. وقال ابن فارس: الكمه العمي يولد به الإنسان، وقد يعرض، يقال كمه يكمه كمها: إذا عمي، وكمهت عينه: إذا أعميتها؛ وقيل: الأكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، وقيل: هو الممسوح العين. والبرص معروف، وهو بياض يظهر في الجلد. وقد كان عيسى عليه السلام يبريء من أمراض عدّة، كما اشتمل عليه الإنجيل، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر؛ لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة، وكذلك إحياء الموتى قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك. قوله: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ} أي: أخبركم بالذي تأكلونه، وبالذي تدّخرونه. قوله: {وَمُصَدّقًا} عطف على قوله: {وَرَسُولاً} وقيل: المعنى: وجئتكم مصدّقاً. قوله: {وَلأِحِلَّ} أي: ولأجل أن أحلّ، أي: جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم من الأطعمة في التوراة، كالشحوم، وكل ذي ظفر، وقيل: إنما أحلّ لهم ما حرّمته عليهم الأحبار، ولم تحرّمه التوراة. وقال أبو عبيدة: يجوز أن يكون {بعض} بمعنى كلّ، وأنشد: تَرّاكُ أمكنَةٍ إذَا لم أرْضها *** أو يرْتِبَطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها قال القرطبي: وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة؛ لأن البعض، والجزء لا يكونان بمعنى الكل، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرّمته عليهم التوراة، فإنه لم يحلل القتل، ولا السرقة، ولا الفاحشة، وغير ذلك من المحرّمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة، وهي: كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين، ولكنه قد يقع البعض موقع الكل مع القرينة، كقول الشاعر: أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيتَ فاستبق بَعْضنَا *** حَنَانْيك بعضُ الشَّرِ أهوَنُ مِن بَعْضِ أي: بعض الشرّ أهون من كله. قوله: {بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} هي قوله: {إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ} وإنما كان ذلك آية، لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك، فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوّته. ويحتمل أن تكون هذه الآية هي: الآية المتقدّمة، فتكون تكريراً لقوله: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين} الآية. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {بِكَلِمَةٍ} قال: عيسى هو: الكلمة من الله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: المهد: مضجع الصبيّ في رضاعه. وقد ثبت في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل: رجل يقال له جريج كان يصلي، فجاءته أمه فدعته فقال: أجيبها، أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعة، فتعرضت له امرأة، وكلمته، فأبى، فأتت راعياً، فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه، وسبوه، فتوضأ، وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا إلا من طين. وكانت امرأة من بني إسرائيل ترضع ابناً لها، فمرّ بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها، وأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه، ثم مرّ بأمة تجرجر، ويلعب بها، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال: اللهمّ اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون لها زَنيتِ، وتقول حسبي الله، ونعم الوكيل، ويقولون سرقت، وتقول حسبي الله. وأخرج أبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يتكلم في المهد إلا عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَيُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً} قال: يكلمهم صغيراً، وكبيراً. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الكهل هو من في سن الكهولة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: الكهل: الحليم. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَيُعَلّمُهُ الكتاب} قال: الخط بالقلم. وأخرج ابن جرير، عن ابن جريح، نحوه. وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس قال: إنما خلق عيسى طائراً واحداً، وهو الخفاش. وأخرج ابن جريج، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طريق الضحاك، عن ابن عباس؛ قال: الأكمه الذي يولد أعمى. وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال: الأكمه الأعمى الممسوح العينين. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: الأكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل. وأخرجوا عن عكرمة قالوا: الأكمه: الأعمش. وأخرج أحمد في الزهد، عن خالد الحذاء قال: كان عيسى ابن مريم إذا سرح رسله يحيون الموتى يقول لهم: قولوا كذا، فإذا وجدتم قشعريرة، ودمعة، فادعوا عند ذلك. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ} قال: بما أكلتم البارحة من طعام، وما خبأتم منه. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عمار بن ياسر قال: {أُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ} من المائدة {وَمَا تَدَّخِرُونَ} منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا، ولا يدّخروا، فأكلوا، وادّخروا، وخانوا، فجعلوا قردة، وخنازير. وأخرج ابن جرير، عن وهب أن عيسى كان على شريعة موسى، وكان يسبت، ويستقبل بيت المقدس، وقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم، وأضع عنكم من الآصار. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع في الآية: قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرّم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل، والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرّم عليهم الشحوم، فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير، وفي أشياء أخر حرّمها عليهم، وشدّد عليهم فيها، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة مثله. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} قال: ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)} قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ} أي: علم ووجد: قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة: معنى أحسّ: عرف. وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة، والإحساس: العلم بالشيء. قال الله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]. والمراد بالإحساس هنا: الإدراك القويّ الجاري مجرى المشاهدة. وبالكفر إصرارهم عليه، وقيل: سمع منهم كلمة الكفر. وقال الفراء: أرادوا قتله. وعلى هذا، فمعنى الآية: فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر قال: من أنصاري إلى الله. الأنصار جمع نصير. وقوله: {إِلَى الله} متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي: متوجهاً إلى الله، أو ملتجئاً إليه، أو ذاهباً إليه، وقيل: إلى بمعنى مع كقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] وقيل: المعنى: من أنصاري في السبيل إلى الله، وقيل: المعنى: من يضم نصرته إلى نصرة الله. والحواريون: جمع حواري، وحواريّ الرجل: صفوته، وخلاصته، وهو مأخوذ من الحور، وهو البياض عند أهل اللغة، حوّرت الثياب بيضتها، والحواري من الطعام: ما حوّر: أي بيض، والحواري أيضاً الناصر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبيّ حواريّ، وحواريي الزبير» وهو في البخاري، وغيره. وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك، فقيل: لبياض ثيابهم. وقيل: لخلوص نياتهم. وقيل: لأنهم خاصة الأنبياء، وكانوا اثني عشر رجلاً، ومعنى أنصار الله: أنصار دينه ورسله. وقوله: {آمنا بالله} استئناف جار مجرى العلة لما قبله، فإن الإيمان يبعث على النصرة. قوله: {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: اشهد لنا يوم القيامة بأنا مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا. ومعنى: {بِمَا أَنزَلْتُ} ما أنزله الله سبحانه في كتبه. والرسول عيسى، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: اتبعناه في كل ما يأتي به، فاكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية، ولرسولك بالرسالة. أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم. وقيل: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: {وَمَكَرُواْ} أي: الذي أحسّ عيسى منهم الكفر، وهم: كفار بني إسرائيل. ومكر الله: استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون. قاله الفراء، وغيره. وقال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمى الجزاء باسم الابتداء، كقوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 15] {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وأصل المكر في اللغة: الاغتيال، والخدع: حكاه ابن فارس، وعلى هذا، فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة. وقيل: مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره، ورفع عيسى إليه {والله خَيْرُ الماكرين} أي: أقواهم مكراً، وأنفذهم كيداً، وأقواهم على إيصال الضرر بمن يريد إيصاله به من حيث لا يحتسب. قوله: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى} العامل في إذ: مكروا، أو قوله: {خَيْرُ الماكرين} أو فعل مضمر تقديره وقع ذلك. وقال الفراء: إن في الكلام تقديماً، وتأخيراً تقديره إني رافعك، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالك من السماء. وقال أبو زيد: متوفيك قابضك. وقال في الكشاف: مستوفي أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم. وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة، كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري، ووجه ذلك أنه قد صحّ في الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزوله، وقتله الدجال، وقيل: إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار، ثم رفعه إلى السماء، وفيه ضعف، وقيل: المراد بالوفاة هنا النوم ومثله: {وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] أي: ينيمكم، وبه قال كثيرون. قوله: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي: من حيث جوازهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم. قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} أي: الذين اتبعوا ما جئت به، وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلوّ فيه إلى ما بلغ من جعله إلهاً، ومنهم المسلمون، فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلوّ، فلم يفرّطوا في وصفه، كما فرطت اليهود، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى. وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم. وقيل: المراد: بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم، فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة؛ وقيل: هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين، وقيل: هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار، أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين، كما تفيده الآيات الكثيرة، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل، قاهرة لها مستعلية عليها. وقد أفردت هذه الآية بمؤلف سميته «وبل الغمامة في تفسير: {وَجَاعِ] ُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة}» فمن رام استيفاء ما في المقام، فليرجع إلى ذلك. والفوقية هنا هي أعم من أن تكون بالسيف، أو بالحجة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره، وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة. قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي: رجوعكم، وتقديم الظرف للقصر {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يومئذ: {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين. قوله: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} إلى قوله {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} تفسير للحكم. قوله {فِى الدنيا والاخرة} متعلق بقوله: فأعذبهم، أما تعذيبهم في الدنيا، فبالقتل والسبي، والجزية، والصغار، وأما في الآخرة، فبعذاب النار. قوله: {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: يعطيهم إياها كاملة موفرة، قريء بالتحتية وبالنون. وقوله: {لاَ يُحِبُّ الظالمين} كناية عن بغضهم، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها. قوله: {ذلك} إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى، وغيره وهو مبتدأ خبره ما بعده، و{مِنَ الأيات} حال، أو خبر بعد خبر. والحكيم المشتمل على الحكم، أو المحكم الذي لا خلل فيه. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} قال: كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: إنما سمُّوا الحواريين لبياض ثيابهم كانوا صيادين. وأخرج عبد بن حميد، عن الضحاك قال: الحواريون قصارون مرّ بهم عيسى فآمنوا به. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة. وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: هم أصفياء الأنبياء. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الضحاك مثله. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: الحواري الوزير. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان بن عيينة قال: الحواري الناصر. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} قال: مع محمد، وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر من طريق الكلبي، عن أبي صالح عنه قال {مَعَ الشاهدين} مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير، عن السدي قال: إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي، فيقتل، وله الجنة، فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يقول: مميتك. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن قال: متوفيك من الأرض. وأخرج الآخران عنه قال: وفاة المنام. وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة قال: هذا من المقدّم، والمؤخر أي: رافعك إليّ، ومتوفيك. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مطر الوراق قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن وهب قال: توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه، وأخرج ابن عساكر، عنه قال: أماته ثلاثة أيام ثم بعثه، ورفعه. وأخرج الحاكم، عنه قال: توفى الله عيسى سبع ساعات. وأخرج ابن سعد، وأحمد في الزهد، والحاكم، عن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وأخرج ابن عساكر، عن وهب مثله. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله تعالى: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} قال: طهره من اليهود، والنصارى، والمجوس، ومن كفار قومه. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} قال: هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته، وملته، وسنته. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن النعمان بن بشير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله» قال النعمان: من قال إني أقول على رسول الله ما لم يقل، فإن تصديق ذلك في كتاب الله، قال الله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} الآية. وأخرج ابن عساكر، عن معاوية مرفوعاً نحوه، ثم قرأ معاوية الآية. وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال: النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، وليس بلد فيه أحد من النصارى، إلا وهم فوق اليهود في شرق، ولا غرب، هم البلدان كلها مستذلون.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً من غير أب كآدم، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة، وهو كونه لا أمّ له: كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه، وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه، وأعظم عجباً، وأغرب أسلوباً. وقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} جملة مفسرة لما أبهم في المثل، أي: أن آدم لم يكن له أب، ولا أم، بل خلقه الله من تراب. وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأنّ آدم خلق من غير أب، وأمّ. قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: كن بشراً، فكان بشراً. وقوله: {فَيَكُونُ} حكاية حال ماضية، وقد تقدّم تفسير هذا. وقوله: {الحق مِن رَّبّكَ} قال الفراء: هو مرفوع بإضمار هو. وقال أبو عبيدة: هو استئناف كلام، وخبره قوله: {مِن رَبّكَ} وقيل: هو فاعل فعل محذوف، أي: جاءك الحق من ربك. قوله: {فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين} الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أي: لا يكن أحد منكم ممترياً، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون النهي له لزيادة التثبيت؛ لأنه لا يكون منه شك في ذلك. قوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} هذا وإن كان عاماً، فالمراد به الخاص، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم من نجران، كما سيأتي بيانه، ويمكن أن يقال هو على عمومه، وإن كان السبب خاصاً، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته، وضمير {فيه} لعيسى؛ والمراد بمجيء العلم هنا: مجيء سببه، وهو: الآيات البينات، والمحاجة: المخاصمة، والمجادلة. وقوله: {تَعَالَوْاْ} أي: هلموا، وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضراً، كما تقول لمن هو حاضر عندك: تعال ننظر في هذا الأمر. قوله: {نَدْعُ أَبْنَاءنَا} الخ اكتفى بذكر البنين عن البنات، إما لدخولهن في النساء، أو لكونهم الذين يحضرون. مواقف الخصام دونهن، ومعنى الآية: ليدع كل منا ومنكم أبناءه، ونساءه، ونفسه إلى المباهلة. وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وسلم أراد بالأبناء الحسنين، كما سيأتي. قوله: {نَبْتَهِلْ} أصل الابتهال: الاجتهاد في الدعاء باللعن، وغيره، يقال بهله الله، أي: لعنه، والبهل: اللعن. قال أبو عبيد، والكسائي: نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك، ومنه قول لبيد: فِي كُهُول سَادَةٍ مِنْ قَوْمِه *** نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيهم فابْتَهَلْ أي: فاجتهد في هلاكهم. قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا. قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين} عطف على نبتهل مبين لمعناه {إِنَّ هَذَا} أي: الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى {لَهُوَ القصص الحق} القصص التتابع، يقال: فلان يقص أثر فلان، أي: يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع، بعضه بعضاً، وضمير الفصل للحصر، ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره، وزيادة «من» في قوله: {مِنْ إِلَهٍ} لتأكيد العموم، وهو ردّ على من قال بالتثليث من النصارى. وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث حذيفة: أن العاقب، والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا نلاعنه، فوالله لئن كان نبياً، فلاعننا لا نفلح أبداً نحن، ولا عقبنا من بعدنا، فقالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلاً أميناً، فقال: «قم يا أبا عبيدة،» فلما قام قال: «هذا أمين هذه الأمة». وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد الله، قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، وأنبئت به، ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل، فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ} إلى آخر الآية. وقد رويت هذه القصة على وجوه، عن جماعة من التابعين. وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، عن جابر قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب، والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد، فقال: «كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام،» قالا فهات. قال: «حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير». قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على الغد، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيد عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيباه، وأقرّا له، فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا، لأمطر الوادي عليهما ناراً. قال جابر: فيهم نزلت: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وأبناءكم} الآية. قال جابر: {أَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليّ، وأبناءنا الحسن، والحسين، ونساءنا فاطمة. ورواه أيضاً الحاكم، من وجه آخر عن جابر وصححه، وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن نلاعنك؟ وأخرج مسلم، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي، عن سعد بن أبي وقاص: قال لما نزلت هذه الآية: {قُلْ تَعَالَوْاْ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وفاطمة، وحسناً، وحسيناً، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي». وأخرج ابن عساكر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا} الآية، قال: فجاء بأبي بكر، وولده، وبعمر، وولده، وبعثمان، وولده، وبعليّ، وولده. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج، عن ابن عباس: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نجتهد. وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا الإخلاص يشير بأصبعه التي تلي الإبهام، «وهذا الدعاء»، فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال، فرفع يديه مدّاً.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} قيل: الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية. وقيل: ليهود المدينة، وقيل: لليهود والنصارى جميعاً، وهو: ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض؛ لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسواء: العدل. قال الفراء: يقال في المعنى العدل: سوى، وسواء، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضممت، أو كسرت قصرت. قال زهير: أرونيّ خُطَّةً لا ضَيْم فيها *** يُسَوِّيَّ بيننا فيها السَّوَاءُ وفي قراءة ابن مسعود: «إلى كلمة عدل بيننا، وبينكم» فالمعنى: أقبلوا إلى ما دعيتم إليه، وهي: الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله: {أَلا نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهو: في موضع خفض على البدل من كلمة، أو رفع على إضمار مبتدأ، أي: هي ألا نعبد، ويجوز أن تكون " أن " مفسرة لا موضع للجملة التي دخلت عليها، وفي قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح، وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر، وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله، فحلل ما حللوه له، وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك، فقد اتخذ من قلده ربا، ومنه {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} [التوبة: 31] وقد جوّز الكسائي، والفراء الجزم في {وَلاَ نُشْرِكَ} ولا يتخذ) على التوهم. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عما دعوا إليه: {فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: منقادون لأحكامه مرتضون به معترفون بما أنعم الله به علينا من هذا الدين القويم. وقد أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، عن ابن عباس قال: حدّثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين، و{يا أهل الكتاب تعالوا، إلى كلمة سواء بيننا، وبينكم} إلى قوله: {بأنا مسلمون}». وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ} الآية. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية، فأبوا عليه، فجاهدهم حتى أقرّوا بالجزية. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء. وأخرج ابن جرير، عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة: {إلى كَلِمَةٍ سَوَاء} قال: عدل. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج في قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} قال لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله؛ ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم، وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلوا لهم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} قال: سجود بعضهم لبعض.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} لما ادّعت كل واحدة من طائفتي اليهود، والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم، وأبان بأن الملة اليهودية، والملة النصرانية إنما كانتا من بعده. قال الزجاج: هذه الآية أبين حجة على اليهود، والنصارى أن التوراة، والإنجيل نزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب. انتهى. وفيه نظر، فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة، وذكر شريعة موسى، والاحتجاج بها على اليهود، وكذلك الزبور فيه في مواضع ذكر شريعة موسى، وفي أوائله التبشير بعيسى، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدّمة، يعرف هذا كل من عرف هذه الكتب المنزلة. وقد اختلف في قدر المدّة التي بين إبراهيم وموسى، والمدّة التي بين موسى، وعيسى. قال القرطبي: يقال: كان بين إبراهيم، وموسى ألف سنة، وبين موسى، وعيسى ألفا سنة. وكذا في الكشاف. قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: تتفكرون في دحوض حجتكم، وبطلان قولكم. قوله: {تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} الأصل في ها أنتم: أأنتم أبدلت الهمزة الأولى هاء؛ لأنها أختها كذا قال أبو عمرو بن العلاء، والأخفش. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقرأ قنبل: {هَأَنْتُمْ} وقيل: الهاء للتنبيه دخلت على الجملة التي بعدها، أي: ها أنتم هؤلاء الرجال الحمقى حاججتم، وفي {هؤلاء} لغتان المدّ، والقصر. والمراد بما لهم به علم: هو ما كان في التوراة، وإن خالفوا مقتضاه، وجادلوا فيه بالباطل، والذي لا علم لهم به هو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم لجهلهم بالزمن الذي كان فيه. وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحقّ، كما في حديث: «من ترك المراء، ولو محقاً، فأنا ضمينه على الله يبيت في ربض الجنة» وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن لقوله تعالى: {وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ونحو ذلك، فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة، أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة. قوله: {والله يَعْلَمُ} أي: كل شيء، فيدخل في ذلك ما حاججوا به. وقد تقدّم تفسير الحنيف. قوله: {إِنَّ أَوْلَى الناس} أي: أحقهم به، وأخصهم للذين اتبعوا ملته، واقتدوا بدينه {وهذا النبى} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أفرده بالذكر تعظيماً له، وتشريفاً، وأولويته صلى الله عليه وسلم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته، ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية {والذين ءامَنُواْ} من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فنزل فيهم: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ في إبراهيم} الآية. وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية: {هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} يقول فيما شهدتم، ورأيتم، وعاينتم: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يقول فيما لم تشهدوا، ولم تروا، ولم تعاينوا. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدّي، في الآية قال: أما الذي لهم به علم، فما حرّم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: يعذر من حاجّ بعلم، ولا يعذر من حاجّ بالجهل. وأخرج ابن جرير، عنه عن الشعبي، في قوله: {مَا كَانَ إبراهيم} قال: أكذبهم الله، وأدحض حجتهم. وأخرج أيضاً عن الربيع مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان نحوه. وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدّثني ابن غنم؛ أنه لما خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فذكر قصتهم معه، وما قالوه له لما قال له عمرو بن العاص إنهم يشتمون عيسى، وهي قصة مشهورة؛ ثم قال: فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالمدينة: {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} الآية. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبيّ ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي خليل ربي، ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى الناس} الآية» وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحكم بن ميناء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبيّ المتقون، فكونوا أنتم سبيل ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال، وتلقوني بالدنيا تحملونها، فأصدّ عنكم بوجهي، ثم قرأ عليهم: {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} الآية» وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في الآية قال: كل مؤمن وليّ إبراهيم ممن مضى، وممن بقي.
|